متابعة : ماجد لفته العابــد
كتب الدكتور محمد سيف 3 اجزاء عن مسرحية ( جويف ) تاليف واخراج حمادي الوهايبي الذي عرضت نهاية شهر اذارمن هذا العام في مهرجان القيروان للمسرح الحديث بتونس وقد نشرة على شكل اجزاء في جريدة الصحافة التونسية
من عروض مهرجان القيروان للمسرح الحديث 1 من 3
مسرحية «جويف»، لحمادي الوهايبي
باريس / بقلم : محمد سيف
قبلَ البدءِ بقراءةِ عرضِ مسرحية جويف، لابد من الإشارة إلى أن حمادي الوهايبي، قد قدم ثلاثية مسرحية تطرقت في شكلها ومضمونها الى مواضيع لا تخلو من الجرأة والحساسية، وتعتبر مواضيعها تابوهات تشي بعدم الاقتراب منها، وتسيل لعاب التطرف وتهيج الايديولوجيات القومية الشوفينية، وتؤلب الجموع التي لا تريد النظر إلى أبعد من ترسباتها الفكرية العقيمة، وبما أننا لا نريد الخوض في هذا الموضوع الآن على الأقل، نود أن نشير إلى أن هذه الثلاثية التي استطعنا مشاهدة اثنين منها، والثالثة (الصابرات) قد شاهدناها من خلال الفيديو، ولهذا نجد صعوبة في الحديث عنها نقديا، لأننا لا نستطيع تقبيل امرأة من خلف زجاج، سنقوم بقراءة (جويف، والروبة) كل على حدة، بكل تأكيد.
وقد لفت انتباهنا، بادئ ذي بدء، أن هذه الثلاثية قد اعتمدت في تمثيلها على ست شخصيات، وهذا ما يلقي بنا مباشرة في أحضان مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف،) لبيراندلو، هذه المسرحية الميتاتياترية التي تدور احداثها حول العلاقة بين الكاتب وشخصياته، وممتهني المسرح، بلا شك ان ثلاثية حمادي الوهايبي تختلف من حيث المقاربة عن مسرحية بيراندلو، ولكنها تحيلنا إلى عدد شخصياتها الستة التي جاءت من الحياة واقتحمت بوابة فرقة مسرحية أثناء التدريب. إن شخصيات حمادي الوهايبي الستة، في هذه الثلاثية لا تقتحم المسرح فحسب، وإنما تشكل مسرحته نفسها، من خلال طرحها للسؤال التالي: ماذا يمكن أن تقول هذه الثلاثية لعصرنا الحالي الذي تشظت فيه القيم، وانقلبت رأسا على عقب، في مرحلة تحول كبير شهدتها تونس في 14 كانون الثاني، لعام 2011؟! بعد أن شاهد انسان هذا الجيل فيما قبل وبعده كل الأشياء تنهار من حوله، وذاق محناً عبثيةً، وصارت الحقيقة بالنسبة إليه ظلاما، والظاهر خادعا، والإنسان نفسه في موضع شك واشتباه، والواقعية أقل من الواقع، ضيقة، مخففة، ومزيفة، طالما إنها تتجاهل حقيقته وهواجسه الأساسية، وهكذا صار الإنسان ربما في هذه المرحلة، لا يجد حقيقته إلا في الأحلام، والخيال، مثلما صار فيها الإنسان الحالم، أو المفكر أو المسرحي الذي يسعى لتغيير العالم.
• مسرحية جويف
خلف هذه الثلاثية تختبئ كل هذه الأشياء، وخلف عمل (جويف) واحدة منها، تختبئ دراما مريعة تطالب بحقها في الوجود، دراما تتعلق بالأقليات الموجودة في المجتمعات التي نشأت وترعرعت فيها، ولهذا في رأينا، لا توجد لغة «أقلية»، وإن كل لغة، حتى لو تحدث بها عشرة اشخاص، فهي تستحق الاحترام، لأنها وبكل بساطة، تمرر دائما وأبدا، لغزاٍ كبيراٍ، من خلال الذكاء البشري، شكوكه، احتياجاته، احتجاجاته، ومخاوفه. وبما أن المسرح أقلية، فهو استثنائي، وفقا للمخرج الفرنسي أوليفيه بي. إن هذا الرأي يجعلنا نتساءل عن مكانة الفن المسرحي في مجتمعنا الحالي؟ هذه المكانة التي أصبحت شيئا فشيئا أكثر هامشية من ذي قبل، والتي ينقل ميزتها المخرج حمادي الوهايبي، في مسرحية (جويف)، من خلال تساؤلات تمس واحدة من أعقد الاشكاليات وأكثرها حساسية في مجتمعاتنا العربية: اليهود. هذه الأقلية التي عاشت ولازالت تعيش بيننا، والتي ارتبط إسمها للأسف بإسرائيل كدولة معتدية، مغتصبة لأرض وإرثٍ عربي فلسطينيين، ولا زالت حتى هذه اللحظة التي نكتب فيها هذه السطور، تغتصب الأرض وتحاول تزوير التاريخ وحتى محوه. لقد حاولت هذه الدولة منذ نشوئها حتى الآن أن تفتعل وبشكل ذكي ومدروس العديد من المشاكل والسناريوهات المفبركة، من أجل استقطاب يهود العالم، لكي تبني كياناً لها لم يكن موجودا من قبل، ولقد ساعدها في ذلك الغرب المتحيز كثيراً، وكذلك العقلية العربية، بعدم فهمها للعبة الخبيثة التي كانت تخطط لها بشكل جيد، فحدثت مجازر، ونهب، وسرقة لممتلكات هذه الأقلية التي عاشت بين المطرقة والسندان، مما اضطر اغلبيتها للهجرة، حالمة بدولة عادلة، ولكنها اكتشفت في ما بعد أنها كانت على خطإ، ولم تكن سوى طعم لخيوط لعبة عنصرية قذرة، هناك من عاد يائسا، وهناك من ظل يتأرجح بين الذهاب والإياب بين موطنه الأصلي الذي ولد فيه والدولة الجديدة التي لا ينتمي إليها إلا في الدين، وهناك من ظل رغم لهيب النارين، نار المجتمع الذي عاشت فيه، ونار الدولة التي تريد بأي شكل من الأشكال استعادته.
(جويف) حمادي الوهايبي تتحدث عن هذه المعادلة الشائكة، هذا الجرح الذي لا يريد ان يلتئم، ولا نخفيكم السرّ، ان الأمر صعب ويحتاج إلى جرأة استثنائية، وبحث انثروبولوجي وتبنّي ممارسة مسرحية مغايرة. وهذا ما فعله المؤلف والمخرج حمادي الوهايبي في عمله هذا. ومع ذلك، يبقى سؤالا عالقاً ومُحيراً: كيف يمكن الإجابة عن الأسئلة التي سوف يطرحها المجتمع عند رؤية هذه المغايرة في الطرح؟ وانطلاقا من هذه الحيرة، تتساءل المسرحية بدورها بكيفية درامية، فرجوية، اجتماعية، وسياسية، عن الطرق والصيغ الحديثة التي ينظر فيها المجتمع التونسي لهذا الآخر الذي يعيش معه وفيه منذ القدم؟ تتساءل عن مدى تطور هذه الأقلية في عقلية المجتمع وتصوره، وعن مدى خطورة التهديد الخارجي الذي لا ينفك عن التدخل في شؤون المجتمع وتراثه؟ كيف كان ينظر اليه بالأمس وكيف يجب أن ينظر اليه اليوم؟ إن أول ما أدهشني في هذا العرض، هو حداثته التي تحاول اللحاق بعجلة الزمن، من خلال نمط الوعي الذي يكابر ويقاوم من اجل الانتصار على حالة اليأس، فهو لا يتحدث عن الماضي والحاضر فقط، وعن التسامح، أو عن بعض أشكال العنصرية، وإنما أيضاً عن موضوع الساعة الأكثر اشتعالا، مثلما يتحدث وبشكل واسع وعميق عن أبناء البلد؛ عن ظاهرة اجتماعية وعالمية تعرضت لها هذه الاقلية، التي أرغمت بسبب الحروب العرقية على ترك أوطانها الأصلية، بحثا عن حياة أفضل في مكان آخر غير مؤكد، لا تعرف في ما إذا كانت ستتكيف معه أم لا؟ إن عرض جويف، يضعنا من البدء، في قلب هذه الإشكالية، دون لف ولا دوران، من خلال الخرافة التي يتمسك بها المخرج بأسنانه في عمله، هذه الخرافة التي تشكل مركز الكتابة النصية الكلاسيكية، لكن العرض كما نعلم، لا يختصر نفسه بالخرافة/ النص، وإنما بالمعالجة والأداء واستخدام الفضاء ايقاعياً وسينوغرافياً، والكتابة الركحية، مما يجعلنا إزاء عملٍ حالي بكل معنى الكلمة. لقد وضعنا المخرج فيه بلا رجعة أمام حقيقة الوقت الحاضر، سواء كان عالمنا أو عالم المسرحية نفسها، واللذان أصبحا في هذا العرض حاضرًا واحداً. هذا بالإضافة إلى تغلب طابع النكتة والأمل على العمل، وانتصار الضحك فيه على اليأس والقنوط؛ وضعنا أمام واقعية الوجود، وفقا للرغبة التي عبر عنها أرتو عندما يقول: (نريد أن نجعل من المسرح واقعا يمكن أن نؤمن به، ويشتمل على تلك العضة المحسوسة التي يشتمل عليها كل إحساس حقيقي، من أجل القلب والحواس. كما تؤثر أحلامنا فينا، ويؤثر الواقع في أحلامنا). لقد بدأ المخرج عمله منذ اللحظة الأولى، بالحدث الذي يجعل من ديناميكية الفوضى الناتجة عن العنف، وتدهور حالة البلد بشكل عام، يفرض نوعا من الحبس الاجباري على الأقلية اليهودية، من أجل حمايتها وليس لسبب آخر، وهذا ما يطالعنا به المشهد الأول من العرض، حيث نشاهد حارس المكان (المنّوبي)، الذي سنكتشف في ما بعد أنه ليس بحارس مأوى في حقيقة الأمر وإنما ضابط عسكري، متنكر بشخصية الحارس لكي يسهر على سلامة هذه الأقلية التي صارت عرضة للخطر، نراه يعترض طريق (عزيزة) العجوزة المسلمة التي تأويها دليلة (داية حدّاد) الشابة اليهودية المتمردة، تحت ذريعة انها يهودية ومن حقها أن تلجأ لهذا المكان شأنها شأن اليهود الآخرين المحاصرين هنا: المنّوبي: أرجعي شدي بيتك.. تحبي تدخل البلاد في الحيط، وتهبط الطّامة والعامة، وترتع في البلاد CIA-KGB، والموساد، وحتى مالطة والتشاد يأخذو فينا باي.. أش قالي وأش قتلك عذراء يهودية في السبعين إغتصبوها كمشة مسلمين، وتولي حكايتك على كل لسان، وبرّه عاد يا قناة الجزيرة والعربية ويا اناضول، ويا يديعوت أحرنوت، والرويترر، وقتها المنّوبي يمشي زيزي (…). ويؤكد العرض على حالة الحبس هذه في المشهد الثاني مباشرة، عندما تتجه (عزيزة) إلى المقعد الأزرق الذي وضعه المخرج في أعلى يسار المسرح، أي في المقدمة، وتجلس عليه، تدخل الشابة دليلة حانقة وهي تقول: أش يهمّك فيّ سي المنوّبي.. وقتاش نروّح وقتاش نجي؟ (…) ما نيش في دورتوار (في استجواب)، وما نيش في حبس. وعندما تسألها عزيزة عن سبب غضبها وثورتها، تقول بأن ثلاث دوريات قد استوقفتها، وكل دورية تسألها عن اسمها: داية حدّاد.. تونسّية؟ ايه تونسّية، ماله علاش اسمك داية، وموش دليلة؟ وتجيبهم: على خاترني ايهودية، مش مسلمه، وزيدك نخلط لهوني، سي المنّوبي، يعمل طرح.. فتحاول عزيزة ان تهدئ من روعها، بقولها أن الأوامر قد صدرت إليه من مسؤولة النزل للاك حبيبه: بعد العاشرة الخروج ممنوع. فترد عليها: بأن هذه الأخيرة: للات روحها، أنا للاتي حبيبه مسيكة، الديفا، وهنا تطلب منها ان تحدثها عن أمها. ونستشف من ذلك، ومن خلال حكاية (عزيزة المسلمة) وعلاقتها بأم دليلة أو داية حدّاد، أن المجتمع التونسي سابقا كان ممتزجا ببعضه البعض ومنصهرا في تاريخ واحد، وان جسده الإنساني لا يعرف الفرق أو الفروق ولا التصدعات الاثنية، لأنه نتاج ثقافة تكاد أن تكون مشتركة، وكل لغة من اللغات التي فيه تُكون جسداً خاصاً، وتصوغ فكراً، وترسم ملامحاً للوجه من خلال الصوت وتردداته، والهيأة والمظهر، وانحناءة الظهر، واستخدام الذراعين.
الجزء الثاني
.. وكل العناصر التي تتفاعل في هذه اللغة الأم تعمل على صياغة هذه المعطيات الثقافية، (وفقا لبحوث مارسيل موس). حاول حمادي الوهايبي أن يهتم بجميع هذه المنجزات التي يمكن ان تخلقها اللغة والعادات المشتركة، مما جعله لم يكتفِ في عرضه باللهجة التونسية وإنما باليهودية وطغيانها على كلام الشخصيات اليهودية عند حديثها باللهجة التونسية، وهذا ما تجسد أيضا وبشكل واضح في السينوغرافيا التي شطرت الركح إلى شطرين من خلال ستارتين شفافتين مستطيلتين، ينزلان من أعلى سقف المسرح حتى أرضيته السفلى، وتشير كل واحدة منهما لأحداث غير مرئية تحدث خارج النزل وداخله، رُسم على سطحيهما أحرف عبرية وبخط كبير، سلطت عليهما إضاءة زرقة غامقة أعطت المناخ نوعا من الغموض والالتباس والتوتر والخوف الذي يمكن ان يحدث، في حالة حظر التجوال والحروب والفوضى، هذا بالإضافة إلى غناء لـله حبيبه مسكيه (المغنية اليهودية التونسية)، الذي تستمع اليه (عزيزة) من خلال الراديو الصغير الذي بحوزتها، في الوقت الذي ترقص (دليلية) على انغام اغنية (على سرير النوم دلعني) وهما يحتسيان شراب البوخة (الكحول التونسي اليهودي)، ويتعمق هذا الجانب أكثر فاكثر، عند دخول شخصية (ميمون)، الذي جعله المخرج يدخل فضاء اللعب وكأنه لص متنكر يجر خلفه حقيبة سفر بيد، ويحمل في اليد الثانية (مخطوط عن تاريخ اليهود عمره أكثر من 500 عام ، مغلفا إياها في غلاف معدني اسطواني طويل، وهي ملك للتراث التونسي، الذي حصل عليه بطريقة غامضة، مستغلا ظروف الفوضى التي تعيشها البلاد) وهو يؤدي السلام باللغة العبرية: شلوم، وعندما تصطدم به (عزيزة)، وتتفحصه تفر هاربة وكأنها قد تنبأت، بنواياه الخسيسة. بعد خروج (عزيزة) تدخل كل من (حبيبة وساسية ودليله)، وهم في حالة من الرعب، إذ ليس من المتوقع ان يدخل عليهم رجل في مثل هذه الساعة من الليل دون علم مسبق، ودراية حتى من الحارس نفسه، وبعد سؤال وجواب، يكتشفون بأنه يهودي مثلهم وقد جاء لكي يحمي نفسه من الفوضى التي في الخارج. وهنا يضعنا المخرج في جو مسرحي شبه بوليسي، ينصهر فيه الكذب بالصدق، وتهيمن عليه الشكوك، والقلق من هذا القادم الغريب الذي تسلل إلى المكان خلسة، بجعله قوة الفعل وغموضه يرتكزان على هذه الشخصية وعلاقتها بشخصية (ساسية) الملتبسة، إذ بمجرد ما يلتقي (ميمون) بهذه الأخيرة، بعد تفرق الجميع، يسلمها نسخة التوراة ويطلب منها ان تخفيها عندها حتى يحين الحين لتهريبها إلى اسرائيل، مع ما موجود من اليهود الموجودين في هذا المكان. وكما في جميع الدرامات البوليسية ومواضيع الجرائم التي ترتكب في جنح الليل، هناك دائما شاهد خفي، وعزيزة كانت هذا الشاهد، الذي يفضح سرّ العلاقة بين (ميمون وساسيه)، وهذا ما يكشف لنا شيئا فشيئا أن جميع الشخصيات تقريباً لها ماضٍ خفي، وسوأ أرادوا أم أبوا، فإن شخصاً ما سيضع ماضيها على المحك. مثل هذه البداية، يمكن أن تجعلنا نفكر، بالنقد الاجتماعي الذي لم يدر له المؤلف المخرج ظهره تماماً، بحيث بدا لنا النص وكأنه يدعو بشكل أو بآخر، إلى تجاوز كافة اشكال الترسبات الاجتماعية، ويستكشف بالدرجة الأولى، والاساس، التحولات الملموسة للعرض انطلاقا، من الحالة العامة التي حبست فيها الشخصيات، وغرائزها التي يعتبرونها نموذجا لتصرفاتهم. فالشخصيات سجينة سياق محدود، مشوه، وغير انساني، وقد دفعتهم الظروف لأن يجدوا قوة حيوية في قلب بؤسهم الانساني نفسه، قوة جعلتهم يتجاوزون وضعهم ويتسامون عليه، وأن يعيشوا وهم مخلصون لأفكارهم التي ينعتونها بالكرامة (وهذا ما تجسده شخصية دليلة بامتياز، واعتراضها على كلمة حاشاك يهودية). إن مثل هذا الفضاء المسرحي الذي وضعنا فيه المخرج حمادي الوهايبي لم يكن متوقعا، لا لنا ولا لشخصياته، ربما لأنه جريء وجديد، ومليء بالفخاخ والمخاطر التأويلية. ولهذا السبب ربما، عندما تدخل شخصياته إلى خشبة المسرح، نراها وكأنها محرومة من الكلمات والحركات المناسبة للوضع الذي هي فيه، وتعيش نوعا من الصمت أو الشلل الذي راح يتسلل إلى اجسادها شيئا فشيئا، أو كأنها قد قُذفت فجأة في المحيط، ولكن هذا لا يعني انها لا تعرف السباحة، وإنما ازيل عنها حقها في العوم، بطريقة أو أخرى. المنّوبي إلى دليلة: وين عندك خارجة؟ اسمع كلام الربّي.. قاللكم انتوما الايهود.. سكرو على رواحكم… والتوانسة توه يفضوها في بعضهم. دليلة: وأحنا آش نوه سي المنوبي؟ ناس أخرى/ من دنيا أخرى… تصاور ولا نوامر.. في بطاقات التعريف! نسمعو كلام الربي.. نسكرو الشبابك ونشمعو البيبان… وناكلو القوت حتى لين تجينا الموت.. سي المنوبي أحنا توانسه …والبلاد ماهياش قطوسة تولد وتدور تأكل في صغارها. لقد وضع المخرج هذه المجموعة من الأقلية التونسية، في مكان واحد، غير عادي، بدوا فيه لا هم جيدون ولا هم سيئون حقا، إنهم بكل بساطة، ضائعون، ومهمشون، وحانقون. إنهم ضحايا أنفسهم أكثر مما هم ضحايا الازمات والحروب والسيناريوهات العالمية العنصرية، وإن همهم الوحيد هو البقاء على قيد الحياة وبأي طريقة كانت. وإذا كانوا يبدون عدوانيين، فذلك لأنهم يخافون من كل شيء، فيستسلمون إلى دوافعهم. بلاشك، ان العرض كان مثيرا للاهتمام، لا سيما أننا ندخل في حبكته من خلال اللعب، في جو من الشك والريبة والتشويق، التي تنتقل عدوها مباشرة إلى المتفرج، وهكذا يصبح الجميع عالقاً في تلابيبها، ويحاول ان يحل لغزها، الذي انحصر في شخصية (ميمون)، التي أداها ببراعة واسترخاء عال الممثل القدير حسام الغريبي، هذا الممثل الذي استطاع أن يجلب الأنظار إليه، ليس لأنه يمثل شخصية محورية، يدور حولها الغموض والالتباس، وإنما على الرغم من شرورها الخفية، استطاع أن يعقد علاقة مع المتفرج لا تخلو من التشويق والفكاهة الذكية التي استطاعت ان تصور دهاء هذا النوع من الشخصيات، وتفضح ألاعيبهم، وتنتقدهم في نفس الوقت، دون الاستغراق في المبالغة، ودون الوقوع في فجاجة الأداء الكاريكاتيري الذي اعتدنا مشاهدته عندما يتعلق الامر بتجسيد شخصية الإسرائيلي أو المستعمر، أو حتى الأجنبي. وبقدر ما بدت هذه الشخصية في البدء غامضة ومثيرة للشكوك بقدر ما حاول (حسام الغريبي) أن يؤسس من خلالها لعباً قائما على الكوميديا بعض الشيء، يخفي شيئاً آخر، بحيث كان هذا الشيء الآخر المبطن يغذي تمثيله بالبحث، والاختزال والعثور على ما يجاري الحالات المسرحية، لكي يشيد الدواخل الخفية لكل لحظة من لحظاتها، والانتقال بينها بكل استرخاء واتقان. لقد تعامل المخرج حمادي الوهايبي مع ممثليه بطريقة جعلت أدائهم ينبع من صميم التجربة الخاصة لفن الممثل التي شكلت في هذا العرض مرتكزا أساسياً، بالإضافة إلى الحبكة، إذ جعلهم يعرفون كيف يتخيلون أنفسهم وهم يؤدون شخصياتهم، داخل فضاء شبه فارغ تقريباً، مما منح الممثل حرية مسؤولة لملئه بالعواطف والأحاسيس والمشاعر التي كانت تتدفق من مشهد لمشهد وهي تكمل بعضها البعض، وتزرع الشك والتشويق والفكر أيضاً، وكأننا أمام سبورة سوداء لا لكي نستعملها لنشرح دراسا، لأن المسرح ليس بصالة درس، وإنما فرجة نقص من خلالها حكاية، لا سيما أن كل الحكايات لها علاقة بالفكر، وبالثقافة والمجتمع، والسياسة، ومن هنا متأتية قيمته، لكن الوهايبي لم يقص في عرضه حكاية تنتمي إلى الثقافة فحسب، وإنما تعالج أساس وجوهر الانسان ذاته، وتحولاته، والضغوط التي تمارس في حق حريته، ومواطنته، حتى لو كانت تنتمي إلى أقلية من الأقليات. وهذا شكل من أكثر الأشكال جوهرية (وقد كان الإغريق أكثر اقترابا منه، ولهذا السبب، كما يقول إدوارد بوند، استطاعوا أن يخترعوا ما نسميه الآن بالمسرح). إن عمل وقصة جويف تعتبر جوهرية ربما لأنها تطرح أسئلة وقضايا اليوم، من خلال فن الحكاية وتماسكها، التي لم يعد يلجا إليها المسرح الحديث، إلا من خلال التجزئة والتشظي لمكوناتها، وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل ان هذا النوع من المسرح الحديث محقاً فيما يفعل؟!
الجزء الثالث والاخير
التي قدمت في مهرجان القيروان للمسرح الحديث، في جريد الصحافة التونسية، فالف شكر لها والشكر موصول للناقد والصحفي القدير لطفي العربي السنوسي و موصول أيضا وبكل تأكيد لكل الذين تابعوا اجزاء المقال من الصديقات والاصدقاء ، محمد سيف باريس
اعتمد العرض على ممثلين غاية في الكمال ليس كلهم بكل تأكيد. ولكن اغلبهم كانوا يؤدون دورهم بإتقان والتزام مطلق، فبالإضافة إلى حسام الغريبي، كانت هناك الممثلة القديرة (فاتحة المهدوي)، التي لم يترك أدائها أحداً بلا مبالاة. كان جسدها يتكلم، يتمدد، جاعلا من كل مقطع من جملها، سبباً لوجودها في هذا المكان الذي لم يكن غريبا عليها، ولكل جملة من الجمل صراعها وتشابكهاً مع ما يحيط بها من أحداث، وكذلك شخصية دليلة، التي أدتها الممثلة (سامية بوقرة)، التي كانت تغلي غضباً من الداخل والخارج، وكشفت باقتدار عال عن حالة التمزق الذي تعيشه هذ الشخصية بين يهوديتها التي حرمت بسببها من دراسة القانون في الجامعة، بسبب صفعها لمديرها، لأنه تلفظ بما لا يمكن أن تقبله (حاشك يهودية)، وبين حبها لبلدها تونس وتشبثها بتربته، وبالتالي، هي التي تسترجع في نهاية العمل نسخة التوراة التي خبئتها (ساسية) في غرفتها، وتسلمها إلى المنوبي، بعد أن تكتشف انه ليس بحارس وإنما ضابط عسكري، وأن ميمون ليس عالم آثار، كما يدعي وإنما مبعوث وجاسوس إسرائيلي، بالإضافة إلى أداء محمد السايح عويشاوي، الذي توزع بين شخصيتين: الحارس الاعرج والعسكري الذي يسهر على سلامة هذه الأقلية ويرصد الحركات الملتوية لميمون ونواياه عن قرب، وكذلك الممثلة (يسر عياد) في دور ساسية و(وهيبة العيدي) بدور حبيبة.
لقد تميزت وتفردت هذه الكتابة المسرحية/الركحية، التي قاد خيوطها المخرج حمادي الوهايبي من خلال كتابته للنص وإخراجه مع فريق عمله، بنوع من الحنكة المعرفية المبررة الخالية من الزيادة أو النقصان، التي يمكن إدراكها من ديناميكية آليات كتابتها أولا، وإيقاع إخراجها على الركح بشكل متواصل ثانياً، إذ لا يوجد فيها ولا مشهد واحد منفصل، أو يغرد بمفرده عن السرب وحبكته البوليسية المركزية تقريباً، والتي كانت بمثابة مشهدٍ كبير واحد متماسك، ذات إبعاد وتفرعاتٍ متنوعة، تتابع فيه المسارات، العلاقات، المخاطر، الدسائس، والمجازفات الجسيمة: دخول وخروج وحوارات وأفعال متواصلة. الكلام يسير وينتقل من شخص لأخر دون توقف، وإن توقف، فالفعل ينوب عنه، وهكذا دواليك: نأتي، نتكلم، نذهب، نتلصص، نغضب، نغني، نحتسي البوخا، نرقص، نتآمر، نحتج على كلمة (يهودي حشاك)، ونحاول أن نخرج من حالة الحبس، ولكن بلا جدوى، فالأوامر هي الأوامر، والفوضى في الخارج لا زالت شاخصة، وموضع تهديد، وهذا ما يستثمره (ميمون)، بمساعدة (ساسية)، من أجل الوصل إلى مبتغاه، في تهريب المخطوط التاريخي وهذه المجموعة من اليهود المولدة هنا، ولكنه لحسن الحظ يصطدم بجدار الرفض والمعارضة، ويتعرض للكشف والتعرية، بحيث يحاول المد والجزر في هذا المشهد الكبير، من خلال الاحداث، الكلام، الأفعال، والشخصيات والإخراج الأنيق دائما، أن يقول شيئا أو يصف شيئا أو يعري شيئاً، من خلال خيوطه المتشابكة التي قادها المخرج بدراية فائقة، جعلت من عملية تمريره النص إلى الركح تكون ديناميكية، وحيوي، وشكلت امتداداً للحياة، بتنوع لهجاتها، ولغاتها، التي لم تكن ابدا عقبة أمام فهم النص، وفيضه، بل عززت الخطاب المسرحي وقوة العلاقات المتصارعة في قلب العرض. لقد كشف الإخراج عن اقتراحات غنية بكل حيوية، وقام بقص العرض على طريقة الحكايات التي تروى بمتعة لا مثيل لها، من خلال مضاعفته لعملية الذهاب والإياب بين التراجيديا والكوميديا وخاصة في المشهد الذي تطلب فيه عزيزة من دليله مكان القبلة لكي تصلي، مما يثر حنق هذه الأخيرة، لأنها أخبرت الجميع بأن عزيزة يهودية تونسية كانت تعيش في المغرب؛ وبين الوحشية والرقة، والزيف الحقيقي والحقيقة الشعرية. وهذا ما تجسد في أكثر من مشهد، وخاصة في مشهد المواجهة بين دليلة وميمون، التي تضع معه النقاط على الحروف. دليلة: الحلمة عمرها ما تموت (…) والثنيّة مازالت طويلة، عروقي ممدودة هوني، نابته من ثلاثة آلاف سنا، لا انتي ولاّ غيرك.. تنجّم تقلعلي عروقي. ميمون: (…) ثمة ناس قاعدين يزينولك في الدنيا وهي جهنّم في وجوهنا محلولة. دليلة: جهنم مشروعك برنامجك الكبير.. تحب تفجعنا. تحب تخوفنا.. تعيشنا في كابوس (…) حتى نقولك هزنا معاك. كانت صور العرض قوية، وتتسلسل فيها المشاهد بكيفية موسيقية مثيرة، عالج لوحاته المخرج ببساطة مكثفة، حولت العقدة إلى شيء بصري مؤكد. هذا بالإضافة، إلى حزمة الصراعات التي تظهر، وتختفي بشكل منتظم، في بالية قلقة تقطر جوا من الاضطراب والاحتدام والمرح، يقودها مخرج يعرف ماذا يفعل، وستة ممثلين، قدموا معرضا من الصور المذهلة، دافعوا من خلالها على ادوارهم سواء كانت صغيرة او كبيرة بنفس الحماس والشجاعة؛ حاولوا أن يروا لنا قصة متناقضة، تلامسنا بطريقة غير متوقعة، وتكشف عن أحداث في مكان مثير للقلق: المسرح.
شكرا لناقد الكبير لطفي العربي السنوسي.
About Post Author
admin
Average Rating
One thought on “مسرحية جويف”
اترك تعليقاً إلغاء الرد
More Stories
طالب الفراتي…الاداء العارف!!
العربية٢٤نيوز/ شوقي كريم حسن بدء اذاعياً من خلال شخصية ابو سباهي عبر برنامج ريفي كان يعده غازي مجدي،مالبثت ان...
حارسة الوجع
العربية٢٤نيوز/ أفياء أمين الأسدي أريقُ دمي على مرأى من الليلِ أعضّ وسادتي كي لا يجيء الفجرُ مقتولا غفوتُ الآنَ...
صمود إمرأة
العربية٢٤نيوز/ عائشة ساكري/ تونس كل شيء يصبح جميلاً عندما نريد أن نراه جميلاً.. أنا سيدة أفكاري... أنا مرآة المرأة...
هجرة
العربية٢٤نيوز/ ثامر محمد شعيب أجزمْ بأنكِ ملاذٌ ووطنْ مُذ أصبنَ أنفاسكِ ثنايا الضلوع وأختصصنَ قلبي للسكنْ فهجرتُ وطني المفجوع...
ولادة ضوء
العربية٢٤نيوز/ سليمان جمعة هذا الوجع على ارضي يرفع سؤالا .. يكتبه الصمت صلاة .. اتأمل في الافق..في البعيد .....
رحيل الليل
العربية٢٤نيوز/ إدريس البوكيلي الحسني/المغرب أَكْرهُ أنينَ صَمتكْ وتنهيداتِ أساكِ و حُزنكْ اتركيها بعيداً بعيداً. عن عَراياكِ عن وجهك ومراياكِ...
Thank you, I have just been searching for information about
this topic for a long time and yours is the greatest I have found out so far.
However, what about the conclusion? Are you positive in regards to the supply?