بعد 76 عامًا من اللجوء: قصة المربي محمود السعيد الذي لا يزال ينتظر الأمل في حل محنته
كانت حياة الأستاذ السعيد تشبه حياة أي طفل في فلسطين التاريخية قبل صيف عام 1948. كانت عائلته من العائلات الفقيرة في القرية، ويتذكر كيف كان يلعب مع أصدقائه في الحاكورة، ويتسلق الأشجار، ويساعد أهالي القرية في قطف الزيتون.
كان والده أحمد السعيد يركب دراجته للعمل في سلسلة سوبر ماركت كبيرة تُدعى سبينيس في عكا. يستذكر الرجل المسن هذا المشهد قائلاً: “كنا نركض لاستقباله عندما يعود إلى القرية من العمل ونسحب له الدراجة”.
روى الأستاذ محمود قصته للزميل عزت الفري من فريق أخبار الأمم المتحدة خلال زيارة إلى منزله المتواضع في البداوي، وهي بلدة كبيرة ومزدحمة شمال لبنان.
“كان منزلنا عبارة عن غرفة واحدة فقط. كانت والدتي تقول لنا: ‘انتظروا حتى يأتي والدكم’. كنا نضع الفاكهة لنأكلها؛ فاكهة الصبار والتين والعنب. كانت جميع أنواع الفاكهة البعلية تنمو في أرضنا”.
عندما اندلعت الحرب، نقل والده العائلة إلى قرية جدته التي تبعد بضعة كيلومترات عن البروة وعاد للدفاع عن موطنه. وبعد أن اتضح أن المعركة خاسرة، عاد إلى زوجته وأولاده الأربعة لتبدأ رحلتهم الطويلة عبر الحدود اللبنانية.
“أيام قليلة” تحولت إلى 76 عاماً
يتذكر الأستاذ محمود التوقف في عدة قرى على طول الطريق إلى لبنان، حيث نامت العائلة عدة ليالٍ في بساتين الزيتون. ووصف لنا بحراً من الناس “على مدى البصر” يسيرون صفاً واحداً خلف بعضهم البعض. كان كل من والديه يحمل طفلاً صغيراً وحزمة من الملابس، بينما كان الطفل محمود يمسك بيد أخيه ويحمل إبريق ماء طوال الرحلة الشاقة. وأضاف: “أخبرنا والدي أننا لن نغادر إلا لبضعة أيام وسنعود إلى فلسطين. كان يأمل ذلك”.
وصلت الأسرة أخيراً إلى بلدة جويا جنوب لبنان حيث استأجروا غرفة انتظاراً لذلك اليوم الذي لم يأتِ حتى يومنا هذا. للأسف، أصيب الأب بسكتة دماغية وتوفي بعد بضعة أشهر فقط، وعن هذا يقول الأستاذ محمود: “أعتقد أن والدي مات حزناً على وطنه”.
بعد وفاة والده، أقنع أخواله والدته بالانتقال إلى مكان أقرب إليهم في مدينة طرابلس الشمالية حيث كانوا قد لجأوا حديثًا.الأستاذ محمود السعيد يحمل صورة له مع إخوته التقطت سنة 1951.
“كانت والدتي تخدم في البيوت في طرابلس. في ذلك الوقت لم تكن هناك غسالات آلية، فكانت تغسل الملابس، وكان الناس يعطونها نظير ذلك ليرة أو طبقا من الطعام. كلما كانت تحصل على طعام، كانت تضعه جانبا لنا في حالة عدم تمكننا من إيجاد أي شيء نأكله بأنفسنا. لقد عانت كثيرا”.
عاشت الأسرة في كوخ خشبي بجوار مسلخ مدينة الميناء في طرابلس. ويقول الأستاذ محمود: “كانت الأسماك تتجمع حيث يفرغ الدم في البحر. كنا نذهب للصيد هناك للحصول على وجبة في بعض الأحيان”. كما تلقت الأسرة مساعدة من الصليب الأحمر، حتى تولت وكالة الأونروا مهمة إعالة اللاجئين الفلسطينيين في عام 1950.
طفل مصمم على النجاح
للمساعدة في نفقات الأسرة، كان الأستاذ محمود يرتاد مكبات النفايات بحثا عن الخردة المعدنية ويجمع الأصداف من الشاطئ بجوار كوخهم لبيعها. كما عمل خلال فصل الصيف في مصنع فخار خلال سنوات دراسته الابتدائية.
ورغم أنه تعلم أساسيات القراءة والكتابة والرياضيات في قريته، فقد تم وضعه في الصف الأول عند سن العاشرة. وقال إن العديد من الناس حاولوا إقناع والدته بترك أطفالها للملاجئ كي تتزوج مرة أخرى، لكنها رفضت وحملت على عاتقها مسؤولية تربيتهم.
“قال لها الناس إنها لن تستطيع تربية أربعة أطفال، وإنها يجب أن تخرجنا من المدرسة وأن ترسلنا للعمل، وخاصة أنا باعتباري الأكبر سناً. وكانت تقول: ‘كيف يمكنني إخراجه من المدرسة وهو حاصل على شهادتين (ابتدائية ومتوسطة)’. عندها قلت لوالدتي أن ترتاح وأننا سنعمل لإعالتها”.
في سن التاسعة عشرة – عندما وصل إلى الصف التاسع المعروف باسم البريفيه – توظف محمود اليافع في منشرة تصنع صناديق للبرتقال الذي ينمو بكثرة في طرابلس المعروفة لدى السكان المحليين باسم “مدينة زهر الليمون”.
“في رمضان، كان دوام عملي ينتهي الساعة الثانية ظهراً وتبدأ المدرسة أيضاً الساعة الثانية. كيف سأوفق بينهما؟ كنت أنفض الغبار عن ثيابي وأذهب إلى المدرسة بملابس متسخة”.استمر الأستاذ محمود في العمل هناك حتى خلال عامه الأول في الجامعة، وبعد ذلك سافر إلى المملكة العربية السعودية بعقد تدريس في عام 1965.
“الأطفال يحبون من يحبهم”
بعد خمس سنوات، عاد الأستاذ محمود إلى لبنان، حيث حصل على وظيفة مدرس بدوام يومي في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وفي عام 1971، تم تثبيته على الوظيفة، لتبدأ مسيرته المهنية التي استمرت 30 عامًا في خدمة مجتمعه.
يقول الأستاذ محمود إنه كان يتطلع إلى معلميه ويحلم دائمًا بأن يكون واحدًا منهم. أخبرنا أن عمل المدرس يتطلب منه أن يملك شغفًا للوظيفة، وأصر على أن أولئك الذين لا يتمتعون بهذا الشغف لا ينبغي أن يعملوا في هذا المجال. وعن ذلك يقول: “حاولت أن أكون مثلًا أعلى لطلابي. عندما كانوا يشترون لي هدايا في يوم المعلم، كنت أخبرهم أنني لا أريد منهم أي شيء سوى أن يكونوا مهذبين ومتعلمين. جاء أحد المدققين ذات مرة وقال لي: ‘طلابك يحبونك’. قلت له: الأطفال يحبون من يحبهم”.
أجمل ذكرياتي تعود لفترتي عندما كنت معلما
بفضل شخصيته المرحة وسلوكه البارع، بنى الأستاذ محمود علاقة خاصة مع أكثر من 10 آلاف طالب قام بتعليمهم على مدار حياته المهنية التي استمرت 36 عامًا. وقال إنه أدّى عمله بشغف، وكان غالبًا أول معلم يصل إلى المدرسة وآخر من يغادرها.
“ما زلت أرى الكثير من طلابي الأوائل في الشارع وهم دائمًا يحيّوني بحرارة. أصبح بعضهم موظفين في الأونروا وأنجب بعضهم أطفالاً وأحفاداً – كثير منهم قمت بتعليمهم أيضًا. أجمل ذكرياتي تعود لفترتي عندما كنت معلماً”.
مثل معظم المعلمين…حياة الأستاذ محمود السعيد: شغف بالتعليم وجمع الكتب
لم يختر الأستاذ محمود هذه المهنة من أجل الأجر، كما قال، مشيرًا إلى أن التدريس في مدارس الأونروا كان مصدر فخر له، وكرّس لديه الشعور بأنه يعمل في الخطوط الأمامية لدعم مجتمعه. وأوضح قائلاً: “إنهم لاجئون مثلنا تمامًا، وأن نضحي بحياتنا وأموالنا من أجلهم هو أقل ما يمكننا فعله”.
شغف للقراءة والكتب
في أربعينيات القرن الماضي، كان الأطفال مثل محمود يجتمعون تحت شجرة في باحة البروة حيث كان الشيخ يعلمهم القراءة والكتابة وحل مسائل الرياضيات الأساسية وحفظ سور من القرآن الكريم. وعن ذلك يقول: “عشقت القراءة منذ أيام فلسطين عندما علمني الشيخ. كنت ألتقط أي ورقة مكتوب عليها أو صحيفة وأحاول قراءتها”.
الأستاذ محمود السعيد لديه هواية جمع الكتب منذ أكثر من 70 عامًا. تطورت لدى الأستاذ محمود هواية جديدة في سن الرابعة عشرة تقريبًا، وهي جمع الكتب، حيث قال إنه قرأ أكثر من ألف كتاب خلال حياته: “جمعت مجموعة كبيرة من الكتب على مدى السنوات السبعين الماضية، وكان معظمها مجانيًا. كان العديد منها هدايا وإهداءات، وبعضها الآخر كانت قد رميت. كنت أحمل هذه الكتب إلى المنزل وأعيد تأهيلها لكي أحافظ عليها”.
حالة لجوء نادرة
بعد 76 عامًا على تهجيره قسراً من منزله، لا يزال الأستاذ محمود ينتظر حلاً لمحنته ومحنة ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في وضع مماثل، والذين يعيش معظمهم حاليًا في لبنان وسوريا والأردن. “كان مغادرة البروة إجبارياً لأن كل قرية قاومت تم نسفها قاعاً صفصفاً. لم يتركوا فيها أثراً”.
وأكد أن قضية اللاجئين الفلسطينيين “لا تشبه أي قضية أخرى شهدها العالم”، وأضاف: “اقتلاع شعب واستبداله بآخر أمر صعب للغاية. لا يبدو أنه سيكون هناك حل قريب لهذه القضية”.
لا يمكن أن يكون هناك سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلا من خلال حل عادل يمنح الحقوق لجميع الأطراف المعنية ويضمن مستقبل أفضل للجميع.قال الأستاذ محمود إن قضية فلسطين بأكملها “طالت وخمجت”. وأوضح أنه فقد الأمل في العودة إلى وطنه لكنه أعرب عن إيمانه بإيجاد حل للأجيال القادمة: “عندما أسمع كلمة لاجئ أشعر بالظلم. أشعر بالإهانة. أشعر وكأن هذا لا ينبغي أن يحدث. لماذا لم نتمكن من حل محنة اللاجئين الفلسطينيين بعد 76 عاماً؟”
وشدد على أن الحل يجب أن يكون دولتين تعيشان جنباً إلى جنب تحت حماية الأمم المتحدة، “حتى لا يستمر الخلاف بينهما”.
واختتم حديثه بالقول: “لا يمكن أن يكون هناك سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلا من خلال حل عادل يمنح الشعب الفلسطيني بعض الحقوق. غالبية الفلسطينيين يقبلون حل الدولتين. المفاوضات يجب أن تكون بين طرفين منتصرين. لا يمكن أن يكون هناك مفاوضات حقيقية بين منتصر ومكسور. يحتاج كلا الطرفين إلى الشعور بأنهما انتصرا، وحينها سيحل السلام”.